لابد لكي تقع المسؤولية الطبية على الطبيب من تحقق
شرطين؛ أولهما وجود الأذى والضرر لدى المريض، والآخر
وجود صلة بين الضرر الحاصل والخطأ الطبي الواقع. وفي
الممارسة الطبية الحديثة لا تصح المطالبة بتعويض عن
الضرر الحاصل إلا إذا قام الطبيب بعمله دون أن يكون له
حق بذلك أو يكون قد انتهك حرمة القوانين المرعية بهذا
الشأن أو أنه تجاهل الالتزامات التي قيد نفسه بها.
إن ما يطلب من الطبيب هو أن يقدم لمريضه العناية
اللازمة حسب ما يقتضيه الوجدان والعلم، ولا يسأل إلا إذا
أهمل ذلك. وقد يتعرض الطبيب إلى انتقادات متباينة
ومتعاكسة أحيانا، فقد يتهم بالتقصير لعدم لجوئه إلى
أساليب حديثة ذكرها علم الطب، كما قد يتهم بالتهور
للجوئه إلى أساليب حديثة لم يثبت بعد شأنها. وهكذا نرى
الطبيب المحافظ كالطبيب المقدام كلاهما عرضة للانتقاد
والنقد من الناحية الفنية. كما قد يتهم الطبيب أحيانا
بعدم التبصر وبالإهمال وعدم الروية وغير ذلك من أمور
عامة ليست خاصة بالطب والأطباء.
صور من المسؤوليات الطبية الحديثة:
أولا- المداخلات الطبية الاستثنائية بدون أخذ موافقة
المريض:
يعتقد بعض الجراحين أن لهم ملء الحق بإجراء أي تداخل
يوصل مريضهم إلى الشفاء. ويزعم بعضهم إمكانية إجراء هذا
التداخل على الرغم من ممانعة المريض أحيانا. إلا أنه
وكما لاحظنا من خلال شروط انتفاء مسؤولية الطبيب حال
وقوع الضرر هو تفويض المريض بإجراء العلاج دوائيا كان أو
جراحيا. ويستثنى من ذلك التفويض حالتان:
الحالة الأولى:
وهي الحالات الخطرة التي تهدد حياة المريض بالموت، أو
تهدد بتلف عضو من أعضائه، ويكون فيها فاقدا للوعي أو
أن حالته النفسية لا تسمح بأخذ إذنه، ولا يكون ولي
الأمر حاضرا لأخذ الإذن. ويدخل ضمن هذه الحالة أيضا في
حالات كون المريض مخدرا من أجل عملية معينة، وقد
تبين أثناء المداخلة الجراحية أن الواجب يحتم
إجراء عملية أخرى ضرورية بنفس الوقت.
الحالة الثانية:
الحالات التي تقتضيها المصلحة العامة، كالأمراض المعدية
التي تهدد المجتمع بانتشار الوباء، فيجوز في هذه
الحالة للسلطات الصحية أن تجبر فردا أو جماعة من الناس
على العلاج أو تعاطي وسيلة من وسائل الوقاية ما دام في
ذلك مصلحة مشروعة للمجتمع.
ثانيا- رفض الطبيب تقديم العلاج لمريض ما:
ليس هناك ما يرغم الطبيب على العمل إلا إذا كان
مصادرا لجهة ما، فعليه أن يعمل لصالح تلك الجهة ويعالج
كل مرضاها. أما إذا تقاعس عن الاستمرار بزيارة مريض تبنى
علاجه مسبقا، كما لو وعد بعلاج امرأة حامل ومن ثم
توليدها، فإذا تقاعس عن ذلك ودون عذر مبيح ونجم عن ذلك
ضرر أصاب المرأة عندها يعتبر الطبيب مسؤولا. إلا أنه
هناك بعض الحالات التي تجعل الطبيب في حل من تعهده لعلاج
مريض ما، كأن يكون المريض مهملا لتعاليم الطبيب، أو أن
يكون ذووه متقاعسين عن تنفيذ ما يطلب منهم لمصلحة
المريض. وفي مثل تلك الحالات على الطبيب، أن يبين للمريض
أو لذويه ذلك حل من التزامه بالعلاج، وأمام شهود.
ثالثا- هجر المريض:
يعتبر التشريع الطبيب الذي زار مريضا أو زاره مريض
وقبل معالجته ملزما بإتمام المعالجة، مؤاخذا على إهمال
المريض الذي عدت زيارة الطبيب الأولى له أو زيارته
للطبيب بمثابة ارتباط أو عقد بينهما. ونفس الأمر ينطبق
أيضا على التزام الطبيب بطبابة جماعة من الناس، ويعد
نكوله عن العناية بالجماعة مخالفة داعية لتحمل
المسؤولية.
رابعا- الإنابة ومسؤولية الطبيب الأصلي والطبيب العوض:
يجوز للطبيب عند تعذر استمراره في معالجة مريض ما لسبب
أو لآخر أن ينيب عنه طبيب آخر ومن نفس اختصاصه. وينظر
المريض وذووه عادة إلى الطبيب العوض نظرة فيها شيء من
التردد والريبة، فإذا حدث أثناء سير المرض اختلاط ما عزي
ذلك إلى تبديل الطبيب، وعدّ الطبيب الأصلي ملوما في نظر
المريض وذويه. في الحقيقة لا يترتب على الطبيب الذي أناب
عنه زميلا له يحمل نفس المؤهلات أي مسؤولية في حالة
إصابة المريض بضرر ما، وذلك بشرط أن يبين الطبيب الوكيل
أنه ليس الطبيب الأصلي، بل هو بديل عنه.
خامسا- الخطأ في التشخيص:
يجب أن لا يعتبر الطبيب مسؤولا عن الخطأ في التشخيص
إذا استعمل الوسائل الممكنة والمتاحة لتشخيص المرض. أما
إذا أهملها دون ما سبب معقول فيعتبر عند ذلك مسؤولا عن
الخطأ في التشخيص. ويجب الإشارة هنا إلى أن علم الطب هو
علم لم يكتمل بعد، وعليه فإنه تقتصر محاسبة الأطباء على
الأصول العلمية الثابتة، فلا يصح أن يسأل الطبيب عن أمر
مختلف عليه فنيا، كما في حالات اللجوء لبعض الإستقصاءات
التشخيصية لتأكيد المرض، والتي قد تكون صعبة المنال في
بعض الأمكنة، أو أنه لم يبت الطب في فائدتها بعد.
سادسا- مسؤولية الخطأ في تحرير الوصفات:
يطلب من الطبيب عند كتابته لأي وصفة طبية أن تكون
الكتابة واضحة؛ فقد حدث في كثير من الأحيان أن أعطي
المريض دواء غير الدواء الذي كتبه الطبيب. إذا نجم نتيجة
ذلك أي ضرر للمريض يعد الصيدلاني هو المسؤول. لذلك من حق
الصيدلاني رفض صرف أية وصفة يكون غير متأكد فيها من اسم
الدواء.
سابعا- المسؤولية عن توابع العملية الجراحية:
لا يعتبر الجراح مسؤولا إذا كانت نتائج العملية
الجراحية على غير ما يرام، وذلك إذا ثبت أنه لم يهمل في
تقديم كل الأساليب والوسائل الفنية والحديثة المتوفرة.
ويعتبر كل من طبيب التخدير والجراح كلاهما مسؤولين عن
المريض في كل مراحل العملية، فقد حدث أحيانا أن أصيب
المريض بحروق أثناء العملية كان غير شاعر بأثرها فيه، أو
أن يسقط المريض من طاولة نقل المريض قبل أن يصحو فيصاب
بأضرار بليغة. لذلك كله يعتبر طبيب التخدير والجراح في
هذه الحالة كلاهما مسؤولين لا عن العمل الجراحي فحسب بل
عن المريض خلال فترة تخديره.
ثامنا- المسؤولية في جراحة التجميل:
تتميز جراحات التجميل عن غيرها من الجراحات بأن
إجراءها هو أمر كمالي وليس ضروريا من أجل استمرار
الحياة. لذلك كانت أكثر التشريعات صارمة فيما يتعلق
بمسؤولية الطبيب في جراحة التجميل حين وقوع الضرر خلافا
لما هو عليه في باقي أنواع الجراحات. ويذكر في هذا
الصدد قصة السيدة لوغن التي هددت جراحا بالانتحار إذا لم
يوافق على إجراء عملية جراحية لها تنحف ساقيها. ولما لم
تؤد العملية الجراحية إلى النتيجة المطلوبة بل رافقها
اختلاطات أدت إلى بتر الساق، أقامت السيدة دعوى على
الجراح مطالبة إياه بالعطل والضرر اللذين لحقا بها من
جراء العملية فحكم عليه بذلك. ولما أراد في دفاعه أن
يبين أن إقدامه على العملية وعدم نجاحها لا يختلف عن
الإقدام على أية عملية جراحية ضرورية ومن ثم الفشل فيها،
أجيب بأن المحكمة قانعة بخبرته ودرايته وحسن عمله،
ولكنها مع ذلك تدينه ولا ترى مبررا لتبرئته لأن ما دفع
السيدة لوغن للجراحة هو تجميل ساقيها لا الخطر على
حياتها، وأنها إذا هددته بالانتحار إذا لم يقدم على
إجراء العملية فهذا يزيد من مسئوليته إذ كان يجب عليه أن
يدرك ضعف نفسيتها وأن يرشدها إلى طبيب نفساني ليعالج
حالتها لا أن يجري لها العملية تلبية لإلحاحها.
تاسعا- المسؤولية الناتجة عن عمل الآخرين:
من المعروف أنه يساعد الأطباء في المشافي عدد من
الأطباء المقيمين والمعاودين والممرضين والممرضات
والفنيين، وإن نتيجة المعالجة مرتبطة إلى حد كبير بحسن
عمل هؤلاء جميعا، فإذا أساء التصرف أحد هؤلاء ونجم عن
ذلك ضرر ما للمريض فهل يكون الطبيب مسؤولا عن ذلك أم
لا؟.
قضى العرف أن يحمل كل إنسان وزره، وعلى هذا تكون
المسؤولية واقعة على المقصر أو المخطئ أو المهمل إلا إذا
كان الشخص الذي نسب إليه الإهمال مرتبطا مباشرة بالطبيب
ومرؤوسا منه. وفي الحقيقة هذا الأمر يختلف من مؤسسة
لأخرى، خاصة فيما إذا كان المشفى هو حكومي أم مشفى خاص.
ففي المشفى الخاص يكون الطبيب عادة مسؤولا عن جميع
العاملين معه من مساعدين وممرضات وخدم لأنه رئيس لهم.
وليس الأمر كذلك في المشافي الحكومية والتي تعد إدارة
المشفى هي المسؤولة عن هؤلاء المساعدين.
ا
الرجوع إلى القائمة |