باحثون يقومون بعملية تشريح دقيقة على دماغ شخص فقد القدرة على تكوين ذكر
في محاولة تحمل بين طياتها قدرًا كبيرًا من الأهمية على مختلف الأصعدة العلمية، يجري الآن باحثون عملية تشريح دقيقة على دماغ شخص سبق له أن فقد القدرة على تكوين ذكريات جديدة إثر خضوعه لجراحة في الدماغ عام 1953، إلى أن أصبح هذا الشخص ويدعى هنري موليسون، على مدار أكثر من نصف قرن المريض الأكثر خضوعًا لدراسات علوم الدماغ.
وتلفت صحيفة النيويورك تايمز الأميركية في هذا الإطار إلى أن الباحثين أقدموا على تلك الخطوة في مسعى من جانبهم لإماطة اللثام عن الغموض الذي يكتنف الطريقة والمكان الذي تتكون فيه الذكريات، وكذلك طريقة استعادتها.
بداية، تشير الصحيفة إلى أن ذلك المريض الذي عُرِف طيلة حياته بـ "إتش . إم " لحماية خصوصيته، قد وافق قبل سنوات عدة على التبرع بدماغه لخدمة الأبحاث.
وفي شباط /فبراير، حصل دكتور جاكوبو أنيسيه، الأستاذ المساعد في الطب الإشعاعي بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، على ذلك الدماغ.
وتزامنًا مع الذكرى الأولى لوفاة موليسون الذي فارق الحياة عن عمر يناهز الثانية والثمانين، بدأ د/ أنيسيه برفقة مجموعة من زملائه المتخصصين في علم الأعصاب تجربتهم الخاصة بتشريح الدماغ، وستسفر تلك العملية عن إنتاج 2500 عينة من الأنسجة سيتم تحليلها.
وتشير الصحيفة إلى أن الكمبيوتر الذي سيقوم بتسجيل كل عينة سينتج خريطة للدماغ يمكن الاستعانة بها في أعمال البحث على غرار خرائط برنامج جوجل إيرث، وهي الخريطة التي يعول عليها الباحثون كثير من الآمال في سبيل تحقيق غايتهم المنشودة.
وقد راقب دكتور أنيسيه عملية كشط موجهة بوساطة الكمبيوتر لإحدى المواد الرمادية اللون من دماغ موليسون المجمد، إلى أن قام بوضعها في سائل كي يتمكن من حفظها.
من جهته، يقول دكتور سوسومو تونيغاوا، أستاذ علم الأعصاب في معهد بيكوار للتعلم والذاكرة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "إنه لأمر مدهش أن يساهم هذا المريض – ذلك الشخص بمفرده – بشكل كبير من الناحية التاريخية في الدراسة الأولية للذاكرة. وسيكون دماغه متاحًا أيضًا لكي يخضع للأبحاث والدراسات المستقبلية".
وعن طبيعة الحالة الصحية لـ "هنري موليسون" قبل وفاته، تنقل الصحيفة عن دكتور سوزان كوركين، طبيبة علم الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي قامت بدراسة ومتابعة حالة موليسون في آخر خمسة عقود من حياته، قولها :" كان يُحِب أن يدخل في محادثات، فعلى سبيل المثال، لكن وفي غضون خمس عشرة دقيقة، تجده يخبرك القصة نفسها ثلاث مرات، مستخدمًا الكلمات ذاتها وأسلوب السرد، من دون أن يتذكر أنه قد انتهى لتوه من قصها.
وفي كل مرة كان يتعرف فيها على شخص جديد، أو يزور فيها أحد المتاجر، أو كان يقوم بالسير متمهلا ً حول البناية السكنية، فإنه كان يتصرف وكأنه يخوض تلك التجربة للمرة الأولى".
وتمضي الصحيفة لتشير إلى أن العلماء كانوا يعتقدون قبل التجارب التي أجروها على دماغ موليسون أن الذاكرة تتوزع على نطاق واسع في جميع أنحاء الدماغ، ولا ترتكز على أي منطقة واحدة.
لكن وبعد أن قاموا باختبار دماغ موليسون، سرعان ما أثبت باحثون في مونتريال وهارتفورد أن المناطق التي أزيلت من فص المخ المسؤول عن الذاكرة المرئية الموقتة (medial Temporal lobe ) على عمق بوصة واحدة بمستوى الأذن نفسه، تؤدي دورًا حيويًا في تكوين الذكريات الجديدة.
وقد اتضح أن هناك منطقة تُعرف بـ ( hippocampus ) تقوم بدور كبير على وجه الخصوص في تشكيل الذاكرة، وتخضع الآن لدراسة مكثفة من جانب العلماء في هذا الشأن.
وفي الوقت الذي سبق وأن غيّر فيه موليسون عبر سلسلة من الدراسات فهم التعلم بإثبات أن جزءًا من ذاكرته كان سليمًا تمامًا، وسيتمكن الباحثون في مشروع رسم خرائط الدماغ الجديد، من دراسة مناطق بدماغ موليسون بمستوى معينة من الدقة والتفصيل لم تكشفه صور الأشعة، وذلك من أجل حل الألغاز العالقة بشأن الرجل وكذلك الدماغ.
وبينما سبق لموليسون أن أثار اندهاش العلماء مرات عدة بإظهاره القدرة على التشبث ببعض الذكريات الجديدة، رجحت تلك الأمور وغيرها من المفاجآت أن دماغ الرجل، المحروم من محور ذاكرته المركزي، كان يقوم بتشغيل باقي المناطق القريبة في محاولة لتعويض ذلك، بحسب العلماء. وبوساطة التجربة الجديدة، سيتمكن الباحثون الآن من البدء في دراسة تلك المناطق غير المفهومة بشكل وثيق.
ويشير الباحثون إلى وجود منطقة تعرف بـ (parahippocampal cortex ) يبدو أنها تقوم بدعم الذاكرة التي يطلق عليها ذاكرة " المعرفة "، التي نشعر فيها وأننا قد سمعنا أو رأينا شيئًا ما من قبل، على الرغم من عدم قدرتنا على تحديد موضعه.
وهنا، تنقل الصحيفة عن دكتور ليلا دافاتشي، طبيبة علم الأعصاب بجامعة نيويورك، قولها :" لقد تعلمنا الكثير عن الذاكرة، وسوف يساعدنا في واقع الأمر دماغ هنري موليسون في توضيح تقسيم العمل بتلك المنطقة لإنشاء الذكريات".
وتقول الصحيفة في الختام إن عملية التشريح الجديدة هذه هي تقنية مستحدثة تجرى على المخ بأكمله، وهي جزء من مشروع يُعرف بـ "مرصد الدماغ"، كما أنها تتويج لسنوات من التحضير المحموم.
ويختم دكتور أنيسيه بقوله :" بينما يتطور هذا المشروع، نأمل في أن يقوم بتحفيز سبل التعاون عبر العديد من التخصصات، لدراسة اضطرابات منها فقدان الذاكرة، والهزات، والخرف.
لكننا أردنا أن نبدأ ذلك مع الدماغ الأشهر في هذا الشأن".