طبيب الأسنان ونظرة تأمل بين إنجازات الماضي وأفاق المستقبل
في الماضي القريب... تألَّق في سماء المهنة.. مهنة طب الأسنان عمالقة كبار.. أطباء عامون.. واختصاصيون...أعمالهم ما زالت حتى يومنا هذا موضع إعجابنا وتقديرنا... أدواتهم كانت بسيطة ومحدودة.
لم يكن لديهم أجهزة تصليب ضوئية للحشوات التجميلية... ولا أجهزة دوارة لمعالجة الأقنية الجذرية... ولا أجهزة تكثيف حرارية لحشوات الأقنية ولا أجهزة قياس ذروة الأسنان ...Apex-Locator وليس لدى معظمهم أجهزة تصوير شعاعية.... ولا أجهزة تبييض للأسنان... ولا توجد في متناول يدهم أجهزة لايزر... ولا أجهزة تعقيم بالحرارة الرطبة... وإنما كان لدى معظمهم أجهزة تعقيم حرارية جافة بسيطة... ولم يألفوا يوماً الكاميرات الفموية... ومع ذلك... نراهم قد تعملقوا وخلبوا ألباب مرضاهم ونالوا رضاهم الكامل... ووصلوا إلى مستويات رفيعة من الإتقان وإنجاز الأعمال الترميمية والتعويضية والجراحية وحتى التجميلية.
من منّا لم يسمع من أهله وأقاربه وجيرانه وحتى من المرضى اللذين يُعالجهم، قصصاً خارقة، وحكايات عن أطباء دخلوا في وجدان الناس، ونالوا من المرضى كل الرضا والثقة والاطمئنان؟
حشوات من الفضة عمرها يفوق الأربعون عاماً... حشوات تجميلية من الكمبوزيت الذاتي التصلب ما زالت على درجة عالية من الجمال... جسور ثابتة معدنية (وحتى من معادن رخيصة) مضى عليها عشرات السنين وما زالت بحالة جيدة... أجهزة لدنة كاملة (بدلات أسنان) ورغم الامتصاص العظمي الشديد من تحتها ما زالت تخدم المرضى وتعطيهم شعوراً بالرضى وعدم المغامرة في صنع أخرى جديدة.
علاجات لبية "سحب عصب" وبوسائل بسيطة ومواد معالجة لبية قديمة... لا زالت في غاية النجاح منذ عشرات السنين.
واليوم... ومع التطور الهائل في كل ميادين طب الأسنان، وتوفر المواد السنية المتطورة والأجهزة السنية المتعددة... ووسائل التعقيم المتنوعة... ودخول الكمبيوتر في جميع مجالات المعالجة... والزيادة العجائبية في عدد المؤتمرات العلمية... والانفتاح الكبير على مدارس طب الأسنان العالمية، واستقدام المحاضرين والرواد من كل أصقاع العالم، والدورات التدريبية المستمرة والعديدة في كل الاختصاصات. ولكن... هناك مشكلة؟
هل تغيّر شيء!
هل تغير مستوى أطباء الأسنان وهبط مستواهم عمن سبقهم من قبل؟
أم تغيرت آلام الأسنان وشكاوى المرضى ولم يعُد بالإمكان السيطرة عليها الآن؟
الحقيقة هي لا هذا ولا ذاك، بل على العكس تماماً... فإن طبيب اليوم. لديه من المعلومات والمؤهلات العلمية والتجهيزات السنية المتطورة ما كان يعتبر الحصول عليه حلماً مستحيلاً بالنسبة لأطباء الأمس! ولكن ماذا يحصل اليوم؟
يقف الطبيب اليوم ليواجه أزمتان رئيسيتان:
الأولى أزمة مع نفسه وتطلعاته وطموحاته في امتلاك القدرة على مواكبه كل جديد والخوض في كل شيء.
والثانية أزمة مواكبة متطلبات المرضى الكثيرة.
قبل أن أدخل في شرح تفاصيل كل أزمة على حدة، سأعلن منذ الآن، بأن كل طبيب يسعى لامتلاك كل شيء. وممارسة كل شيء، لن يعطي أي شيء حقه الكامل، وسأعود لتفصيل هذا الأمر بعد شرح كل من الأزمتان بالتفصيل.
ففي الأزمة الأولى، أزمة طبيب اليوم مع الكم الهائل من المعلومات، والتطورات المتسارعة في كافة الميادين، والاكتشافات المتلاحقة في عالم طب الأسنان، ومع عروض الأجهزة المتطورة والتقنيات الحديثة ومع النظريات والدراسات المتسارعة والتي أحياناً تقلب المفاهيم رأساً على عقب، يقف الطبيب حائراً، تائهاً، ضائعاً. فإما أن يبقى كلاسيكياً مكتفياً بمعلوماته الأكاديمية السابقة المعززة بتجاربه على الواقع العملي أو أن يلحق بالجديد ويخوض مغامرات جديدة لا يعرف أين ستأخذه، وكم ستأخذ من وقته وتفكيره وماله في زمن تقنيات الزرع وتشمل زرع العظم، الطعوم اللثوية، تكبير وزيادة العظم، رفع الجيب الفكي... وغيرها الكثير.
والجراحة اللثوية، بشقيها التجميلي والرأبي، وتبييض الأسنان بالوسائل المختلفة، وحتى لا بأس من تعلم تقويم الأسنان.
وبشكل عام المعالجات اللبية الحديثة ومتطلباتها المكلفة، والوجوه الخزفية والابتسامة الهوليودية، واللآلئ والستراسات وتصحيح أسواء الإطباق، معالجة مشاكل واضطرابات المفاصل الفكية، وغيرها الكثير مما نراه ونشاهده في المؤتمرات العلمية والمجلات الطبية والشركات والإعلانات المتعلقة.
من هنا، ومن هذه الدوامة، والرغبة في التطور... لا يبقى لدى الطبيب اهتماماً كافياً بالأساسيات، لأنه لم يعد مقتنعاً لا بالحشوات المحافظة ولا بتقليح الأسنان ولا بالقلع العادي أو الجسور العادية... أو المعالجات اللبية.
لأن هذا كله لن يشعره بالقيمة العظيمة أمام مرضاه ولن يدر عليه المردود الكبير الذي يسمع عنه من الآخرين...
أما من ناحية الأزمة الثانية، وهي تنامي متطلبات المرضى اليوم وزيادة وعيهم السني والتجميلي ومحاسبتهم للطبيب. وتقييمهم لعمله وتجهيزاته وأدواته وأكثر من ذلك إحراجه بعدة طرق وعدة أسئلة منها:
هل لديك اختصاص في طب الأسنان؟
هل تدربت في دول أوربية؟
كيف تعقم أدواتك؟ أين المعقمة؟ وما نوعها؟
لماذا لا تزرع أسنان؟
هل تستطيع أن تحقق لي ابتسامة هوليودية؟
هل تستطيع وضع لآلئ على أسناني؟
لماذا لا تستعمل الليزر في معالجاتك؟
أين الكاميرات الفموية لترينا كيف كانت الحالة وكيف صارت؟
لماذا لا تستخدم التصوير الشعاعي الحساس RVJ في معالجة العصب؟
لماذا لا تستخدم الأجهزة الدوارة لمعالجة العصب؟
لماذا لا تقتني مولدة كهربائية لتستعملها عند انقطاع التيار الكهربائي؟
لماذا ولماذا ولماذا؟
أسئلة كثيرة وطلبات كبيرة تنهال على الطبيب حتى يصل إلى حالة من فقدان التوازن فيرفع يديه مستسلماً أمام بعض المرضى وهو يقول: "لم أعد قادراً على تلبية جميع احتياجات المرضى"
يضيع طبيب الأسنان هذه الأيام، ويتخبط في أزماته، لأن المرضى، وممثلي شركات التجهيزات السنية، ومندوبيها العلميين الذين يدخلون العيادات، لهم تأثيرهم القوي على توجهات الطبيب وطرق أدائه، لدرجة أن طبيب الأسنان اليوم ينسى بأن الركن الأهم في مهنة طب الأسنان، هو تلبية حاجات الناس الملحة والأساسية والتي تتمثل في:
1ـ علاجات النخور البسيطة والعميقة بشكل جذري وتام بدون ترك هدايا سوداء أو بنية أو لينة تحت الحشوات من أي نوع كانت: فضة أو كمبوزيت أو اينوميرات الزجاج، بمعنى أنه يجب الوصول إلى حُفر نظيفة وعاج صافي مثل قلب الطبيب، ودون حساسية أو آلام لاحقة وإنجاز تعويضات صحية وسليمة يمكن للمريض استخدامها ولسنوات عديدة.
2 ـ علاجات لبية يدوية أو آلية، تنتهي بصورة شعاعية تبين جهود الطبيب وعمله المضني ونجاحه في بلوغ ذرى الأقنية وإغلاقها عن طريق السد المحكم.
3 ـ علاجات لثوية بسيطة من تقليح وتسوية لطيفة للجذور كفيلة بالقضاء على النسبة العظمى من التهابات اللثة وأمراض النسج الداعمة...
4 ـ قلوع للأسنان الموؤفة العادية والقلوع الجراحية دون أذيات أو رضوض وإغلاق بسيط للجروح بالخياطة البسيطة مما يضمن الشفاء المثالي...
5 ـ جسور بسيطة التحضير خزفية معدنية أو خزفية بالكامل أو أي نوع مع احترام وتقدير اللثة ومجالها الحيوي دون انتهاك، هذا الانتهاك الذي سينجم عنه بالتأكيد التهابات وروائح تسبب مشاكل حقيقية ومعاناة يومية للمريض.
6 ـ جلسات توعية صحية للمرضى وتعليمهم طرق العناية الفموية الصحية وطرق التفريش وأنواع فراشي الأسنان ومعاجين الأسنان والغسولات الفموية، والفوائد الناجمة عن الاستخدام بالشكل الصحيح، ومخاطر الاستخدام الخاطئ بالطرق غير العلمية، وفي الأوقات غير المناسبة.
وهذا يشكل أساساً صحيحاً وحجماً كبيراً للعمل بإمكان أي طبيب القيام به وإنجازه على أكمل وجه مما يعطي طبيب الأسنان قوة وشعوراً بالرضا واحترام مرضاه له، وهذا يشكل نسبة تفوق الـ 90% من حاجة القطاع الأوسع للناس ومن عمل مختلف العيادات... وتبقى النسبة الأخرى المتبقية من مطالب المرضى وحاجياتهم لها شروطاً خاصة وحسابات أخرى حتى يمكن الخوض في غمارها... فيتولجها فريق عمل جماعي،أو كادر متفرغ من الأطباء وعلى درجة عالية من التدريب والتخصص، أو مراكز متخصصة متطورة...
فإما أن نقدم خدمة راقية مثالية ونريح المريض ونريح ضمائرنا...أو أن ندخل معاً نحن والمرضى في مآزق كبيرة نحن في غنى عنها... عندما نتصدى لأعمال كبيرة وبأدوات ناقصة وخبرات قليلة وتحضيرات بسيطة وغير كافية.
زارني أحد الأطباء السوريين المقيمين في كندا وطرح أمراً نظرت له حينها باستخفاف حين قال: "أنا لا أمارس في عيادتي إلا أعمالاً بسيطة، حشوات محافظة، أملغم كمبوزيت، Onlay، Inlay وبعض أنواع التقليح وتنظيف الأسنان والجسور الثابتة البسيطة المضمونة النتائج، وفق الأصول العلمية وفي حالة انكشاف العصب عند تحضير الحفرة، فإني أقوم على الفور بتحويل المريض إلى أخصائي معالجة لبية دون حرج أو أي تردد، ومن دون أي شعور بالنقص أمام المريض، أما الأعمال التي أقوم بها فإنها تحظى مني بكل التركيز والاهتمام فأشعر بالثقة والأمان وراحة الضمير.
ومع مرور الأيام تعلمت بأنه علي أن أخوض فقط في أعمال متقنة أعطيها حقها كاملاً وأن أعترف للمريض بأن هناك مكاناً آخر أو طبيباً آخر يستطيع في نواحٍ أخرى أن يخدمه بشكل أفضل مني بكثير.
وبرأيي فلقد كان الطبيب المغترب واقعياً وشفافاً وصائباً في توجهه.
ولم تعد تعني له شيئاً المفاخرة بأشياء هي لغيره أصلاً. وعرض العضلات واستعراض المهارات المتنوعة أمام المرضى... وهذا ما أتمنى أن نصل إليه جميعاً... وعندها ستكون المهنة بألف خير ومرضانا كذلك.
لمعلومات أكثر وضوح أضغط على البنر وشاهد أفلام كثيرة في اليوتيوب لدكتور أنس عبد الرحمن حول الكثير من مواضيع
طب الأسنان