أوراق بحث طبية تبحث عن أسباب الصداع النصفي الغامضة
يشكل الصداع النصفي (الشقيقة) أحد أبرز الأمراض المعوقة لقدرات الإنسان المصاب به على العمل والحياة بصورة طبيعية، نظرا لقسوة أعراضه من ألم واضطراب وتوتر مزاجي وإرهاق بدني، وربما يصل الأمر أحيانا إلى هلوسة بصرية وسمعية.
ويصيب الصداع النصفي التقليدي المريض بألم شديد في جهة واحدة من الرأس على هيئة نبضات، ويسبقه غالبا ظهور هالات بصرية مشوشة، أو ومضات لونية وضوئية غريبة، أو فقدان مؤقت للرؤية، وقد يصاحبه ألم الوخز وتنميل عصبي حسي بأحد جانبي الوجه واللسان والشفتين، وقد يمتد إلى الذراع أو اليد الواقعة على نفس الجانب.
ويعاني معظم المصابين من غثيان وحساسية زائدة تجاه الأضواء أو الأصوات، ويتبع هذه النوبات غالبا شعور بالإرهاق والإجهاد الشديد.
وهو مرض يصيب النساء أكثر بثلاثة أضعاف ما يصيب الرجال، وهناك الكثير من الأمور التي يعزى إليها التسبب في استثارة النوبات مثل التعرض للتغيرات المناخية الحادة، أو الأصوات والأضواء المزعجة، أو بعض الأطعمة المثيرة للحساسية، أو الضغط العصبي، وغيرها.
وتظل الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الإصابة بالصداع النصفي غائبة عن المعرفة، وأشارت بعض النظريات في السابق إلى ارتباط خلل العضلات الخاصة بالأوعية الدماغية وانقباضها أو انبساطها المضطرب بالأمر، ولكن نظريات أحدث فندت تلك القديمة ورجحت أن يكون الخلل موجودا في الأساس في الخلايا الدماغية ذاتها وليس الأوعية الدموية، وخاصة في منطقة جذع المخ المسؤولة عن تنظيم الوظائف الأساسية في جسم الإنسان.
مؤتمر علمي
ونظرا لأهمية الموضوع، فقد أفردت له الجمعية الأميركية لأمراض الصداع American Headache Society جزءا كبيرا من اجتماعها السنوي الذي عقد مؤخرا بولاية لوس أنجليس الأميركية في الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) الماضي، واشتمل برنامج الاجتماع على الكثير من الأبحاث التي تناقش المرض والأشياء التي قد تعرض المصاب للدخول في نوباته الحادة.
ومن الأوراق البحثية التي ناقشها المؤتمر ما عرضه البروفسور بول دورام، أستاذ الأحياء بجامعة ولاية ميسوري، وفريقه من أن اضطرابات النوم، وخاصة الحرمان من الدخول في مراحل النوم العميق، لها دور ضالع في زيادة معدل الإصابة بمرض الصداع النصفي وتنشيط نوباته.
ويشير دورام إلى أن الحرمان من النوم يؤدي إلى خلل في تكون بعض البروتينات، مما يتسبب في استثارة المراكز الدماغية والأعصاب المركزية والطرفية، وقد يحفز الدماغ للدخول في دوامة الألم النصفي.
ودرس بحث ثان العلاقة بين النوم والصداع النصفي ولكن من الجانب الآخر، حيث اهتم بدراسة أثر الصداع النصفي على جودة النوم.
وقدم هذا البحث من قبل مركز ماديغان العسكري بمدينة تاكوما في ولاية واشنطن، حيث بحث الأطباء تأثيرات الإصابة بالصداع النصفي بين الجنود الأميركيين العائدين من ساحات المعارك في العراق.
وأفاد البحث بأن نحو 19% من هؤلاء الجنود يعانون بالفعل من الصداع النصفي، بينما 17% آخرون مشتبه في إصابتهم به، مؤكدا انتشار الإصابة بالمرض لدى الجنود العائدين من مهام قتالية ذات عبء نفسي عنيف أو أولئك الذين تم تشخيصهم بـ«الصداع النصفي التالي للإصابات الدماغية» Post - traumatic headache.
ولكن البحث يهتم أكثر باضطراب النوم الذي أصاب هؤلاء الجنود المرضى، وتغير طبيعة النوم لديهم، وانتشار الأرق، وكذلك بحث دور العقاقير المضادة للصداع والأرق على ضبط إيقاع النوم وتحسينه.
ويفيد البروفسور كونغ زي زهاو، المشرف الرئيسي على الدراسة بأن استخدام العلاجات المضادة للأرق والصداع لمدة 3 أشهر في مثل هؤلاء المرضى قد أسفر عن تحسن ملحوظ في نمط النوم لديهم، وإن لم يحدث تحسن مماثل فيما يخص الكوابيس التي تطغى على منامهم.
ويؤكد القائمون على البحث أن الصداع النصفي المرتبط بالإصابات الدماغية يشكل أحد الأسباب الهامة التي قد تعوق الجنود عن أداء مهامهم، سواء القتالية أو المدنية، بشكل مرضي، مما قد يؤثر على حياتهم ذاتها في حال تعرضهم للخطر في ساحات القتال.
خلل النشاط الدماغي
وفي ورقة ثالثة أفاد الدكتور تيل شبرينغر من جامعة كاليفورنيا بالتعاون مع فريق بحثي من جامعة ميونيخ الألمانية للتقنية، أن الخلل الخاص بالنشاط الدماغي في مرضى الصداع النصفي لا يقتصر على النوبات الحادة فقط كما كان يعتقد سابقا، بل إنه يمتد ليشمل الفترات التي يكون فيها المريض طبيعيا تماما.
ويوضح شبرينغر أن الخلل يشتمل على تلقي الإشارات عبر المستقبلات العصبية وترجمتها عبر الدماغ إلى أوامر حركية أو شعور، كالألم على سبيل المثال.
وهو أحد الأمور التي تشير بوضوح إلى أن سبب المرض موجود في الأساس في الخلايا الدماغية ذاتها وليس الأوعية الدموية، كما أنه يدل على أن مريض الصداع النصفي يستقبل الإشارات العصبية الخارجية بطريقة مختلفة عن غيره من الأشخاص الطبيعيين.
وتناول بحث آخر الصداع النصفي وانعكاساته من وجهة نظر نفسية، حيث تشير الدكتورة جونغ بارك من مستشفى توماس جيفرسون الجامعي بولاية فيلادلفيا الأميركية إلى أن هناك أثرا نفسيا سيئا، يتمثل في إحساس بالجرح النفسي (Stigma)، يصاحب مرضى الصداع النصفي، وأن هذا الأثر يكون أسوأ في حالة المرضى المزمنين.
وتنوه بارك بأن هذه الأحاسيس تكون معتادة في أمراض عضوية عضال مثل الإيدز والأمراض السرطانية، مما يتسبب في إصابة المريض بمشاعر الإحباط والاكتئاب وقد يدمر العلاقات الاجتماعية والعائلية الخاصة بالمريض.
إلا أن مرضى الصداع النصفي قد أظهروا، باستخدام مقاييس خاصة تعنى بمعرفة الأثر السلبي للأمراض المزمنة وانعكاسها على الرؤية الشخصية، معدلات مرتفعة بين مجمل المرضى، وأشارت معايير المرضى المزمنين بالصداع النصفي إلى معدلات أعلى من تلك الخاصة بالأمراض المستعصية، مما يدل على شدة تأثير المرض على نفسية أصحابه.
وعلى ذلك، فإن البحث يحمل توصية مهمة إلى عائلات المرضى بالصداع النصفي لفهم طبيعة مرض ذويهم، ولتفهم ظروفهم النفسية السيئة وانعكاساتها على علاقاتهم الاجتماعية والأسرية وفي أماكن العمل.
تجارب الطفولة المريرة
دراسات أخرى ناقشت تأثيرات التعرض لخبرات سيئة في أثناء الطفولة وعلاقتها بالصداع النصفي مستقبلا، مثل الدراسة التي قدمتها البروفسورة غريتشين تايتين، رئيسة وحدة الأمراض العصبية في جامعة توليدو بولاية أوهايو الأميركية، وتناولت فيها بالبحث قواعد بيانات تخص أكثر من 17 ألفا من البالغين في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا، والمتعلقة بالخبرات السيئة والصدمات النفسية أثناء الطفولة مثل التعرض للاغتصاب أو القهر النفسي أو البدني، ومشاهدة أحداث العنف المنزلي، والتعامل مع أحد أفراد العائلة من مدمني المخدرات، وحدوث انفصال بين الأبوين.
وأشارت تايتين إلى أن المعلومات التي حصلت عليها من خلال تحليل تلك البيانات أثبتت أن التعرض لمثل تلك الخبرات السيئة في الطفولة ترادف مع تزايد فرص الإصابة بالأمراض المختلفة المتعلقة بالصداع، ومنها الإصابة بالصداع النصفي، وأنه كلما زاد عدد المؤثرات السلبية أو زادت مدد التعرض لها، ازدادت فرص الإصابة وازدادت حدتها وشدتها.
كما أشارت تايتين، في ورقة أخرى، إلى تزايد فرص الإصابة بأمراض القلب والشرايين بين مصابي الصداع النصفي ممن تعرضوا لخبرات نفسية سيئة أثناء الطفولة. وأفادت البيانات التي اعتمدت عليها الدراسة عن وجود علاقة تصاعدية بين الصدمات النفسية المبكرة وبين أمراض مثل الذبحة الصدرية والسكتات الدماغية في أولئك الذين يعانون من الصداع النصفي.
مداواة الأعراض
وفي إطار البحث عن علاج، تواجه العلماء مشكلة عدم معرفة الأسباب خلف المرض يقينا، مما يجعل العلاج يرتكز في الأغلب على مداواة الأعراض أو تجنب التعرض لمستثيرات النوبات أو الاعتماد على مبدأ «التجربة والخطأ».
وفي هذا الشأن استخدم العلماء المسكنات، والعقاقير المنشطة لمادة السيروتونين Serotonin agonists (أحد الموصلات العصبية بالدماغ)، ومضادات الاكتئاب، ومشتقات الكورتيزون، ومضادات الهيستامين في علاجاتهم، ولكن أيا من تلك الخطوط العلاجية لم تثبت نجاحا باهرا يجبر الأطباء على احترامها أو تقنين سياسة علاجية واحدة يتبعونها.
ولكن بعض العلماء يوجهون جهودهم للبحث عن حلول غير تقليدية للعلاج مثل استخدام «الحث المغناطيسي».
وكانت دورية «لانسيت» للأعصاب قد أشارت في عدد مارس (آذار) الماضي إلى توصل باحثين في كلية ألبرت أينشتاين للطب بولاية نيويورك إلى نتائج مرضية فيما يخص إخضاع المرضى الذين يعانون من الصداع النصفي لجهاز يبث نبضات مغناطيسية لمنطقة مؤخرة الرأس، أسفرت عن تحسن حالة عدد كبير من الحالات دون التعرض لأي أعراض جانبية.