محمد ابن الإثني عشر عاماً : من أحرق لي سنين طفولتي ؟
محمد ابن الإثني عشر عاماً : من أحرق لي سنين طفولتي ؟
بوجهه المقنع قابلني ونظراته مترقبة ردة فعلي لرؤيته، شعرت براحته عندما ابتسمت له ، فضحكت عيناه وارتاحت أساريره .
بعد أن عمل محمد شهاب الدوخي (13عام) ثلاثة أشهر في ورشة ميكانيك ليتعلم الصنعة تعرض لحريق كاد أن يودي بحياته ، ذابت أذناه وأنفه وجفناه ، ينام الآن مفتوح العينين ، ورغم العمليات الأربع لأتفه فهو غير قادر على التنفس إلا من فمه، يداه عاجزتان وظيفياً وتم بتر عدد من أصابعه وعدد آخر غير قادر على الحركة.
يقضي محمد أيام طفولته كفراشة احترق جناحيها والفصل ربيع ، يجلس وحيداً في المنزل واضعاً القناع الطبي على وجهه ويديه ويتابع برامج الأطفال بصمت حالماً بالعودة إلى المدرسة التي كان يكرهها قبل الحادث.
أخرجته أمه من المدرسة لدى نجاحه إلى الصف الرابع ليتعلم صنعة ما ، ويساعدها في مصروف البيت "كما نصحتها آنسات المدرسة" وأضافت "كانت الآنسات يعمدن إلى تنجيحه رغم كسله للتخلص منه".
وتروي لي أمه عن يوم الحادث وعن الشعور "بيد تعصر قلبها بشدة" ولم تدرك ما السبب حينها ، لكن وبعد نصف ساعة أخبروها أن محمد احترقت يداه ووجهه قليلاً وهو في المشفى فهرعت إليه مسرعة وتفاجأت أنه لدى وصولها قاموا بإلباسها ثياب خاصة لتتمكن من الدخول إليه .
وتتابع ام الطفل روايتها بأنها عندما دخلت رأت على السرير الأول رجلاً عجوزاً محروق الأطراف وعلى السرير الآخر شخص ذو رأس كبير جداً أسود اللون فخرجت مسرعة نحو الممرضة لتسألها عن مكان ابنها ، لكن الممرضة دلتها إلى ذات المكان فقلت لها أن تتأكد فسارت معي إلى السرير الشخص ذو الرأس الكبير وقالت لي: "ها هو محمد" .
قطع كلام الأم دموع كثيفة تخللّها صوتها المتهدج وهي تقول : "تخيلي لم أتمكن من التعرف إلى طفلي ..؟ عنها بدأت بالصراخ بصوت عالٍ جداً ومهما رفعت صوتي أشعر أن لا أحد يسمعني! " .
طوال فترة كلام الأم كان محمد يجلس بهدوء وينظر إليّ بسعادة ، وعلمت فيما بعد أن أطفال الحارة "نهر عيشة" لا يلعبون معه ، حتى أنه لدى ذهابه لشراء العلكة من الدكان القريب صرخت به صاحبة الدكان ولعنته وشتمته طاردة إياه خارجاً، فسألته إن كان هذا قد أزعجه فأجابني والابتسامة على شفتيه:"لا هي وحدة ختيارة".
جوابه دفعني للابتسام بحرقة ، فإلى أي حد قادر هذا الطفل بسنواته القليلة وألمه الكبير على استيعاب من حولة؟
وعن يوم الحادث وما يتذكر منه أخبرني محمد أنه يعمل على تنظيف الورشة ومساعدة المعلم وصنع القهوة والشاي وأنه غالباً ما يقوم بتنظيف الأدوات والمحرك "بطشت" البنزين وغالباً ما يمسح يديه بملابسه حين الانتقال من عمل إلى آخر ، وأن المعلم يوسف طلب منه يومها تحضير الشاي فتوجه نحو الغرفة الخلفية وحاول أن يشعل الغاز بالقداحة لكنها لم تعمل ، فعمد إلى حكها ببنطاله كي تعطي شرارة ثم نجح في إشعال الغاز "اشتعل الغاز أولاً ثم كنزتي ثم بنطلوني" ,
ومن شدة خوفه من عقوبة المعلم لإشعاله النار حاول إطفاء ثيابه دون أن يصدر أي صوت فتعثر بطشت البنزين والذي يستعمل لغسل المحرك وسقط فيه لتشتعل النار به كله .
قاطعته أمه باكية "تخيلي لم يجرؤ على الصراخ وطلب المساعدة خوفاً من معلمه" التفت إلى محمد وسألته عن سبب خوفه الشديد فأخبرني أنه كان يضربه "بالنبريش" وهو خاف إن صرخ وعرف المعلم أنه أشعل النار فإنه سيضربه بشدة .
سألته بذهول :"ألم تتألم ؟ كيف استطعت أن لا تصرخ؟"
أجاب :"كنت مخدراً".؟؟!!!
و روى لي كيف كان صبي اخر يعمل في الورشة وعمره 18 سنه يضربه بشكل دائم ويشتمه ومرة ضربه بالمفك على رأسه.
سادني حينها صمت أسود اللون ، الخوف من الألم جعله أخرس في التعبير عن ألمه، ألمه الذي التهمه بلا صوت !
قضى محمد في مستشفى المجتهد 31 يوم ورغم حاجته للمزيد من الرعاية والمتابعة فإن قرار نقلهم إلى قسم العيادات الخارجية يعني دفع المال الذي لا تملكه الأم، خاصة بعد تخلي الأب عن ابنه وتنكره لمسؤوليته بعد التشوه الكبير الذي أصاب ابنه .
الأم الآن تعتمد على مساعدة جيرانها وأقاربها علماً أن "الحال من بعضو" لكن من هنا 500 ومن هناك 1000 وهكذا .
و عن الجمعيات الخيرية وإمكانية اللجوء إليهم ابتسمت بيأس وقالت :"أخبرتهم عن حالة ابني وحاجته لعمليات ترميم لوجهه ويديه وأذنيه وعينيه حتى على الأقل يتمكن من إغلاقهما، وعن ضرورة العلاج الفيزيائي له لكنهم قالوا لي اذهبي إلى بلدك فهي أولى بك ، أنا من ريف حلب لكني ولدت وتربيت هنا ؟ وهل عمل الخير بحاجة إلى هوية؟إلنا الله "
تصمت قليلاً ثم تتابع بغضب :"مزقت كل الأوراق الطبية لابني ورميتها في "الزبالة" .." .
يسود صمت ثقيل لبرهة أستطيع من خلاله صوت تنفس الأم المتسارع ثم تعانق ابنها لحظات قبل أن تتذكر موعد المرهم لحروقه فتذهب لإحضاره بسرعة لتعود لتنزع القناع عن وجه محمد ...
طالعني وجهه الطفل المحروق وأنفه الذائب ونظر إليّ بعينيه الذاويتين ليرى ردة فعلي لرؤيته ، فابتسمت له بحنان جعله يرد لي الابتسامة بالمثل ويشكو لي من القناع في الصيف بسبب الحر فعانقته أمه باكية وأخذت تتذكر طفلها كيف كان .
لملمت أوراقي من الغرفة الوحيدة الخاوية إلا من "حصيرة وعدد من الطراحات القاسية" وخرجت مسرعة كي لا يلحظ محمد الدموع في عيني .
لا أدري يا محمد من سرق لك سنوات طفولتك ؟
ولا أدري من تآمر عليك لاغتيال أجمل اوقاتك ؟
أألوم أمك الحيرى أم والدك الذي أسلمك للقدر ؟
أألوم الجمعيات الخيرية التي تبرأت منك أم ألوم تلك اليد الجافية التي ضربتك؟
لا يمكن لمن يراك يا محمد الا ان يحبك بوجهك المتغضن رغم طفولتك، بعينيك الذابلتين رغم صحوتك، بضحكتك الدافئة رغم ألمك.
لارا علي - سيريانيوز
تنويه :
نزولا عند رغبة السادة القراء فانه يمكن للذين يودون المساعدة في عملية معالجة الطفل محمد التواصل مع ادارة التحرير - الانسة هناء سلطانة ايميل :
hana@syria-news.com
او الاتصال على الرقم : 6122983- 11 - 00963