يصعب الحديث عن المطابخ القديمة عادة، إذ إن المطابخ والمآكل تتطور وتتداخل حاليا حول العالم بوتيرة سريعة جدا لم يسبق لها مثيل، ومع هذا هناك الكثير من المعلومات والدراسات الحديثة والكافية والقادرة على إعطائنا فكرة عن المطابخ القديمة وعادات الناس وأطباقهم المفضلة ووسائل إنتاج الطعام والحفاظ عليه.
وإذا لم يكن ذلك متوفرا عبر الآثار القديمة والرسوم والحجريات وغيره من المعالم فهو متوفر في الكثير من الوثائق المكتوبة والمدونة منذ قديم الزمان، وفي الحالة الأوروبية منذ أيام الإغريق والرومان الذين تركوا وثائق ومراجع عامة في هذا المضمار.
كما أن الحديث عن المطابخ القديمة أيضا، يحمل في طياته مخاطر سوء الفهم، والتقزيم والتقليل من المعرفة الإنسانية بالطعام في القرون الغابرة قبل أن يصبح العالم ضيعة صغيرة.
وهذا عادة ما كان يحصل مع الذين كانوا يكتبون عن المطبخ الأوروبي في القرون الوسطى (أي بين القرن الخامس والقرن السادس عشر) قبل الثمانينات من القرن الماضي.
إذ دأب الكثير على التعامل مع الطعام والمطابخ تعاملهم مع السياسة والحروب فكان كل ما يتعلق بمطبخ القرون الوسطى متخلفا وبربريا متوحشا ومقززا كما هي صورة القرون الوسطى نفسها في المخيلة البشرية العامة.
ومن الأفكار التي كانت شائعة في هذا المضمار أن أهل القرون الوسطى كانوا يستخدمون الكثير من التوابل وبشكل متخلف وغير ذكي لتغطية طعم اللحم الفاسد، لكن الناس آنذاك كانوا يعرفون كيف يحفظون اللحم ويجففونه كما كان اللحم الطازج متوفرا ويمكن الحصول عليه بسهولة، ولم يكن هناك حاجة إلى أكل اللحوم الفاسدة إلا في حالات خاصة في المناطق الفقيرة أو أثناء الحروب والمجاعات الكثيرة التي حصلت في القرون الوسطى في أوروبا.
كما أن البهارات والتوابل كانت غالية الثمن ومن الكماليات وحكرا على الأغنياء في الكثير من المناطق ويستبعد أن يبذر هؤلاء الأغنياء أموالهم على لحم فاسد.
كما كان يعتقد أيضا أن معظم المآكل القديمة في القرون الوسطى في القارة الأوروبية كانت مآكل فقيرة على شكل عصيدة (حليب وحبوب) أو حساء، إذ إن الوثائق التي درست في عصر التنوير أشارت إلى استخدام الكثير من الصلصات وأن الولائم كانت تضم نخبة المآكل.
ومع هذا فإن معظم المصادر تشير إلى أن كتب الطبخ التي كانت شائعة في القرون الوسطى لم تكن مطابقة لكتب الطبخ الحالية، ولم تكن منتشرة كما يعتقد بل كانت على الأرجح حكرا على بعض النبلاء والعائلات المالكة والغنية، إذ كان الذين يقرأون ويكتبون قلائل، وربما يفسر هذا أيضا قصر النصوص المختصرة التعليمات حول الطبخة المحددة في بعض المصادر.
ومن كتب الطبخ النادرة والممتازة والمعروفة جدا في القرون الوسطى كتاب «رجل باريس المثالي» (Le Menagier De Paris)، الذي يعود تاريخه إلى عام 1393.
وقد تمت ترجمة الكتاب بالكامل إلى الإنجليزية للمرة الأولى هذا العام (الناشر: كورنيل يو بي)، إذ الترجمة التي صدرت عام 1928 لم تكن كاملة واقتصرت على قسم الطعام، الذي لم يكن إلا قسما من ثلاثة أقسام، تركز على نصائح للمتزوجين الجدد.
ويضم الكتاب حوالي سبعين وصفة طبخ. بأية حال، ورغم أن الوصفات غير واضحة التعليمات وتقتصر على المطلوب من المواد، فإن معظمها يتعلق بتحضير أطباق البيض والسمك والصلصات والكعك واللحوم.
ومع أن الكتاب أيضا يعكس كثرة أنواع المآكل والأطباق التي كانت متوفرة في القرون الوسطى، فإن هذا لا يعني أنها كانت منتشرة جميعها على نطاق واسع، إذ إن الكثير من المآكل كانت حكرا على الأغنياء والطبقات العليا ورجال الدين.
وهذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق بتاريخ الأكل في القرون الوسطى حيث كان هناك عالمان من المطابخ وعالمان من الوصفات والمواد، هما عالم الفقراء وعالم الأغنياء.
ويصعب الحديث عن الطعام في تلك الفترة دون العودة إلى هذه المسألة الجوهرية والطبيعية التي كانت جزءا لا يتجزأ من طبيعة العلاقات اليومية والسياسية والإنسانية
لكن الكتب المتخصصة في الأكل وحده بدأت تظهر نهاية القرن الثالث عشر وما بعد، مثل كتاب «كتاب الطبخ» (Liber de Coquina) الإيطالي اللاتيني اللغة (كلاسيك)، الذي تضم نسخته الأخيرة كتابين بالفعل لا يعرف من ألفهما إلا أن أحدهما فرنسي والآخر إيطالي يعتقد أنه من نابولي من جنوب إيطاليا.
ويركز الكتابان على السمك والمعجنات والخضار والدواجن ومآكل الاغنياء والنبيذ والحبوب والبيض والكراث والصلصات.
وبعد ذلك ظهر كتاب بورتولوميو بلاتينا، المكتب الفاتيكاني المعروف في القرن الخامس عشر.
وقد نشر بورتولوميو كتابا تحت عنوان «حول المتعة والصحة» (De honesta voluptate et valetudine).
ثم ظهر كتاب آخر، أعتقد أنه من أهم الكتب التي نشرت في القرون الوسطى وهو الكتاب الذي أعاد نشره وتحريره وليام ويليتش عام 1563 كاملا، كتاب «ابيكيوس» (Apicius)، وقد نشر أحيانا تحت عنوان «حول الطبخ».
لكن هذا الكتاب الذي يعيد نشر وصفات الطعام الروماني التي تعود إلى القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، كان قد ظهر بعدة نسخات مختلفة في البندقية وفلورنسا في بداية ومنتصف القرن السادس عشر.
ولا يعرف مؤلف الكتاب ويعتقد أن اسمه سيليوس ابيكيوس، لكنه يعتبر أبا الكتب المهمة في هذا المضمار في إيطاليا القديمة.
وعلى أساسه أصبح اسم ابيكيوس مرتبطا بكل ما له علاقة بحب الطعام. بأية حال فإن الكتاب، فرض إعادة دراسة مآكل وأطعمة المناطق الجنوبية من إيطاليا والساحلية المتوسطية بالتحديد التي تشتهر حاليا بالبندورة والمعجنات.
وتركز وصفات الكتاب الكثيرة على خدمة الأغنياء ومنها الكثير من وصفات السمك والمآكل البحرية والطيور والحبوب والبقوليات واللحوم بشكل عام، لكن ما في الكتاب أن تبويبه كان حديثا كما هو حال الكتب الحديثة تبدأ بقسم حول الطباخ وآخر حول اللحوم وآخر حول مختلف الأطباق أو بكلام آخر واضح ومفصل ويتعاطى مع كل موضوع على حدة.
ومن المواد والتوابل الذي ذكرتها بعض نصوص مطبخ القرون الوسطى الأوروبي، الزنجبيل والبصل والسمسم والقرنفل والفلفل الحار.
وفي هذا الإطار أيضا، تقول المعلومات المتوفرة إن التوابل والبهارات كانت من المواد غالية الثمن والنادرة والتي يصعب الحصول عليها في تلك الأيام.
كما أن أكثر الأنواع التي كانت شائعة في أوروبا في تلك القرون المظلمة في تاريخ البشرية، الفلفل الأسود والقرفة التي كان يستعاض عنها أحيانا بالسليخة والكمون وجوز الطيب والزنجبيل والقرنفل.
ويبدو أن أوروبا في نهاية القرون الوسطى كانت تستورد ما حجمه ألفا طن من البهارات من أفريقيا وآسيا كل سنة نصفها من الفلفل الأسود.
وكانت تعامل بعض البهارات معاملة الذهب كما نعرف لندرتها كما حصل مع كل المواد المهمة والنادرة عبر التاريخ. وقد حصل هذا مع الزعفران أيضا الذي كانت تستخدمه بعض مطابخ العوائل المالكة في أوروبا قاطبة.
وتم استعاضة الزعفران لاحقا بالكركة أو العقدة الصفراء التي نستخدمها كثيرا هذه الأيام في طبخ الأرز وأنواع الكاريز الحار للونه الأصفر الجميل.
كما تم الاستعاضة عن الفلفل الأسود في ولائم الأغنياء نهاية القرون الوسطى بما يعرف بـ« حبوب الجنة» (Grains of paradise) السوداء التي تشبه في شكلها وطعمها الفلفل الأسود الحار رغم أنها من عائلة حب الهيل، وبما يعرف أيضا بالفلفل الطويل وقشرة جوز الطيب والخولانجان والنرد أو الناردين الذي يعود أصل اسمه إلى مدينة نردة القديمة في سورية، وما يعرف أيضا بالكباب الصيني.
كما كثر استخدام الخردل نهاية القرون الوسطى والمريمية أو الجعساس والبقدونس والكراوية والنعناع والشبت والشومر (الشمرة) والسكر الذي كان يعتبر أيضا من البهارات والمطيبات.
وكان يستخدم الخردل ويفضل مع أطباق اللحم واعتبره القديس هيلديغارد الألماني في القرن الحادي عشر طعام الفقراء.
ومن الأمور المهمة التي تركها لنا أهل القرون الوسطى أو ورثناها عنهم، هي استخدام الخل والنبيذ وعصائر الفاكهة لتطييب الطعام وصلصاته أثناء الطبخ، وخصوصا الصلصات أو الخلطات التي تجمع بين الحلو والتوابل.
كما استخدم أهل القرون الوسطى الملح بكثرة وكانوا أول من حذروا من كثرة استخدامه في الطعام وكانوا لهذا الغرض ينقعون بعض المواد في الماء قبل استخدامها للتخلص ما أمكن من الملح.
ودرج أهل القرون الوسطى على استخدام الملح لتمليح الطعام بالطبع وحفظه وخصوصا السمك واللحوم، وكانت للملح مكانة خاصة، حسب مكانة المعازيم.
وكان يقدم إلى الأغنياء أنواع فاخرة توضع في أوانٍ أو طاسات صغيرة مرصعة بالمجوهرات والذهب.
المطبخ في القرون الوسطى في أوروبا بشكل عام كان عبارة عن موقع صغير وسط الغرفة الرئيسية، أما مطابخ الأغنياء فكانت ملحقة بغرفة للطعام، ولاحقا أصبحت المطابخ مستقلة كما هو الحال الآن.
كما استخدم الناس آنذاك القدر والملاعق على أحجامها والشوك والسكاكين والأباريق والمقالي والسخان المعدني، والمبارش.
لكن بالطبع كانت أسعار الأدوات المطبخية غالية الثمن وكانت حكرا على الأغنياء من الناس كما سبق وذكرنا.